Reserch Lab

ABOUT Dr. Jaafar Fadlallah
Professor at the Lebanese University, Faculty of Tourism & Hospitality Managment. Archaeologist.


All Publicaitons

Share Article
Related Tags

الفينيقيّون والأبجديّة، سياحة في عمق التّاريخ

Submission Date :2024-03-07 | First Published : 2024-03-11 | Written In : Arabic


الدكتور جعفر فضل الله

     لقد بات من الثابت لدى الكثير من علماء الآثار والتاريخ أن العولمة الأولى انطلقت من لبنان، حيث أبحر من شواطئنا رجال يحملون في مراكبهم الزيت والأرجوان والحروف التي كتبوها ونشروها كأبجدية علّموها لشعوب المتوسط ليسهل التفاهم معهم، وبها تبادلوا مع تلك الشعوب المعارف والعلوم والنشاطات التجارية والصناعية، بها تلاقت الحضارات واختصرت المسافات.

     ولقد أصبح جلياَ لدى الكثير من المؤرخين الذين عاصروا  تلك الفترة، بالإضافة إلى الأبحاث الحديثة التي اتخذت من الحفريات الأثرية داعما لها خاصة بعدما كشفت عن بصماتهم الحضارية وأبجديتهم ورسوماتهم في شتى أنحاء العالم، بأن الفينيقيين هم من أوائل الذين غامروا وسافروا واكتشفوا وتاجروا، فكانت السياحة وحب المغامرة والإكتشاف من صناعتهم وإبداعاتهم وواضعوا اللمسات الأولى في صناعة علم السياحة.

    واليوم  تعد السياحة أحد أهم الأنشطة الإقتصادية التي يقوم عليها إقتصاد اي بلد او دولة، حيث كانت منذ القدم وحتى الوقت الحالي تُشكل دعامة لمصدر الدخل الوطني للبلاد، وأصبحت فيما بعد صناعة قائمة بذاتها لها مدخلاتها ومخرجاتها. وهي تؤمن فرص عمل للعديد من الناس.

     إن موقع لبنان الجغرافي المميز، على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط،  وطبيعته الخلابة وتنوعه الثقافي والتاريخي كنتيجة للحضارات المختلفة التي مرت عليه جعلته مقصدًا بارزًا للسائحين الأجانب، فالبلاد تضم عددًا من المعالم السياحية المتنوعة والنشاطات التي تهم فئات مختلفة من الناس، فهناك العديد من الآثار الفينيقية والرومانية الباقية، الحصون والقلاع العربية والبيزنطية والصليبية، الكنائس والمساجد التاريخية، المحميات الطبيعية، الكهوف الكلسيّة، الشطآن الرملية والصخرية، الملاهي والمرابع الليلية، منتجعات التزلج الجبلية، بالإضافة إلى المطبخ اللبناني لمشهور عالميًّا.

     بالإضافة إلى كل أنواع هذه السياحة، هناك نوع من السياحة الثقافية التراثية تشير إلى هوية شعب ونضال وإبداع كان الأول في طرح مفهوم العولمة والتطور الحضاري وما وصلنا إليه من تكنولوجيا وتعدد للغات الحديثة، غفل عنها المتخصصون في علم التراث والسياحة وهي من أعظم ما ينسب اليهم وأساس نهضتهم في العالم عن قصد أو غير قصد وهي سياحة التعرف على الأبجدية الفينيقية في موطنها الأصلي لبنان والتي يطوق لمعرفتها العديد من السياح وخاصة الأجانب ليتعرفوا عن كثب عن هذه الأبجدية التي كانت الشعلة الأولى في فجر الحضارة البشرية من خلال قراءة النصوص على المكتشفات الفينيقية الموجودة في المواقع الأثرية والمتاحف اللبنانية. لاسيما الأبجدية الفينيقية الشهيرة التي تم اكتشافها شبه كاملة

(19حرفاً من أصل 22 حرفاً) على غطاء ناووس الملك أحيرام الذي أكتشف في مدينة جبيل في العام 1923م على يد الأثري الفرنسي بيار مونتيه" (1) وهي على الشكل الآتي:

Credit to: Dr. Jaafar Fadlallah

Credit to: Dr. Jaafar Fadlallah

والتي تعني حرفياً: "الناووس هذا أمر بنحته إتو بعل بن أحيرام ملك جبيل لأحيرام ابيه كمسكن له الأبدي. وإذا ملك من الملوك أو حاكم من الحكام إحتل جبيل وحاول نقل أو فتح هذا الناووس سوف تقع عليه لعنة القاضي حاطور بانقطاع نسله ورميه في الجحيم" (2).

     هو الناووس الأهم محلياً وعالمياً بين كل ما تم العثور عليه حتى الآن، وشعار وطن اسمه لبنان  وهوية شعب عاش على أرضه بين مدينتي صور وجبيل عرف بأسماء عديدة من أبرزها الفينيقيين نقشت عليه أهم إنجازات العقل البشري وهي الأبجدية الفينيقية التي جاءت منها كل أبجديات العالم القديمة والحديثة وكانت المنارة والشعلة نحو إنطلاقة الحضارة وما توصلنا إليه حتى اليوم من تطور تكنولوجي.

     إن ضخامته وغناه الأركيولوجي والحضاري، يفترض أن يوضع  هذا الناووس على رأس قائمة أنواع السياحة اللبنانية المحلية والخارجية وتاليا في مقدمة كل المقتنيات الخاصة لمديرية الآثار اللبنانية (3).

     الفينيقيون، شعباً وحضارة، كانوا وما زالوا يثيرون إهتماماً كبيراً في الغرب. فمنذ أن كشف هوميروس أن الأبجدية الغربية مستمدّة منهم وعن خصائصهم البحرية والتجارية، أصبحوا محطّ إنتباه شديد لا يقلّ عمّا منحته شعوب الشرق القديم الأخرى...".(4) هذا الإهتمام أدى إلى ظهور دراسات عديدة تناولت تاريخ الفينيقيين وحضارتهم، وإعترفت بفضلهم على العالم أجمع في وضع الأبجدية ونشرها، وأقرّت بإسهاماتهم في تطوير الفنون وبخصوصياتهم وحضارتهم التي تخطّت الحدود الجغرافية لبلادهم، وإنتشرت في بلدان حوض البحر المتوسّط كافّة (معظم العالم القديم)(5). لكنّ هذه الدراسات ركّزت على إظهارهم على شكل تجار تهالكوا على تحقيق المكاسب المادية، فشوّهت بذلك صورتهم، وتنكّرت للقيم الإنسانية التي تحلّوا بها طيلة تاريخهم، وعملوا على نشرها في العالم، فكانت سرّ نجاحهم في التجارة والحضارة على السواء، وفي طليعتها الأصالة والإنفتاح على الآخر والرغبة في التواصل معه على قاعدة الإحترام والإعتراف بحقوقه.(6)

     ونحن ورثة الفينيقيين في أرضهم، أهملنا أهمية الإنجاز التاريخي المتعلق باكتشاف أجدادنا للأبجدية الفينيقية ونشرها في العالم، ولم نتعرّف بعد وللأسف على تاريخنا معرفة صحيحة تحيي في عقولنا مضامين ماضينا المجيد الزاخر بالعطاء الحضاري والإنساني، والمتميّز بالأصالة  والتواصل مع الآخر والإنفتاح عليه، وتعيد الإعتبار لهذا الشعب الذي سعى منذ مئات السنين إلى تقارب الشعوب وتكاتفها من أجل خير البشرية.

     فأجدادنا الفينيقيون حوّلوا العالم، بأساليب سلميّة إلى عالم واحد يكتب بأبجدية واحدة، ويعبّر عن نفسه ومعتقداته وأفكاره وأذواقه بأساليب فنيّة متقاربة، قبل أن تبدأ الحضارة الغربية بالعمل على عولمة العالم بحوالي ثلاثة آلاف سنة ونيّف بمنهجيّة مختلفة تقوم على نشر الفوضى الخلاّقة وإختلاق الفتن المتنقّلة من قاّرة لقارّة. والباحثون في تاريخ بلدان حوض البحر المتوسّط وحضاراته، يؤكّدون تحوّله في النصف الأول من الألف الأول ق.م إلى بحيرة فينيقية، بعدما إستوطن الفينيقيون جزره، وإنتشروا من جزر بحر إيجه إلى قبرص وكريت ومالطة وصقلية وصولاً إلى كورسيكا وجزر البليار، وزرعوا مستوطنات لهم على إمتداد شواطئه من اليونان إلى إيطاليا وإسبانيا والمغرب وتونس وليبيا(7). ولقد أكّدت المكتشفات الأثرية في هذه البلدان، ما ذهب إليه هؤلاء الباحثين، بعد العثور على المنشآت المعمارية واللقى الأثرية الفينيقية وأبجديتها في مستعمرات قادش وترشيش وملطية وصبراتة وتونس وقبرص إلخ…(8)

     تزامناً عرف العالم القديم حضارات أخرى عديدة عاصرت الحضارة الفينيقية، كالفرعونية في وادي النيل، والكنعانية والآرامية في الداخل السوري وفلسطين، والعمورية البابلية في بلاد الرافدين، والآشورية في شمالي سوريا، والحورية الميتانية في شمالي سوريا أيضاً، والحثية في الأناضول، والكريتية – الميناوية في جزر بحر إيجه. وقد دلّت المكتشفات الأثرية في مواقع هذه الحضارات أنها كانت كلّها خلاّقة ومبدعة، صنعتها شعوب جبّارة، أقامت دولاً قويّة، وتوسّع بعضها خارج حدوده ليصبح إمبراطورية مترامية الأطراف، كالفرعونية والحثّية والآشورية. لكن أحداً من هذه الشعوب، لم يستطع أن ينشر حضارته خارج حدود وطنه الأم، وفي أحسن الأحوال خارج حدود إمبراطوريته كما فعل أجدادنا الفينيقيين(9).

-----------------------------------------

المراجع

 

1- Holst, S., 2011. Phoenician Secrets: Exploring the Ancient Mediterranean. Los Angeles: Santorini Publishing

2- Jidejian. N. 2011. Lebanon: A Journey Through Time. Beirut : Librairie Orientale

3- Strong, A.  2002. The Phoenicians in History and Legend : 1st books library

4- Krahmalkov, C., 2001. A Phoenician-Punic Grammar. Leiden: Brill

5- Markoe, G.  2000. Peoples of the Past, Phoenicians.: British Museum Press

6- Herm, G. 1975. The Phoenicians: The purple empire of the ancient world -Gerhard – London : Camelot press ltd.

7- Moscati, S. 1973. The world of the Phoenicians: Hazell Watson and Viney

8- Jidejian, N. 1969. Tyre through the Ages. Beirut: Dar El – Mashreq Publishers

9- Harden, D., 1963. Ancient Peoples and Places, The Phoenicians. London: Thames and Husdon.

All rights reserved for Research Labs © 2021