Jihan Dassouki

تمهيد

تهدف الاستدامة إلى تحقيق التوازن بين احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها الخاصة. وهي كمفهوم تنطوي على النظر في الآثار البيئية والاجتماعية والاقتصادية للأنشطة البشرية وإيجاد طرق للحد من الآثار السلبية التي خلقتها الثورة الصناعية والعولمة، والتي باتت اشكالية كبرى يحاول المجتمع العالمي ايجاد حلول لها من خلال تطوير استراتيجيات فعالة في العودة للحلول التقليدية والتقنيات الصديقة للبيئة القائمة على استخدام المواد الطبيعية، بغية تعزيز الآثار الإيجابية وزيادتها ازاء ما تتعرض له الارض من كوارث احدثها التغير المناخي والاحتباس الحراري. عليه فإن الاستدامة لم تعد واجبًا أخلاقيًا فحسب، بل هي أيضًا استراتيجية عمل ذكية من شأنها تعزيز كفاءة عمل الشركات وانتاجيتها.

أحد المجالات المهمة التي تتصل بحياة الإنسان بشكل مباشر والتي يمكن أن تستفيد بشكل كبير من تطبيق مبادئ الاستدامة هي الهندسة الداخلية. ففضلا عن كونها تختص بخلق مساحات وظيفية وجمالية تعزز جودة المكان، من شأنها ايضا أن تؤثر بشكل كبير على البيئة الخارجية والداخلية وتاليًا على صحة المستخدم ورفاهه. لأنها ترتبط مباشرة بإستخدام مركز للمواد وللطاقة والموارد المختلفة ذات التأثيرات الكبيرة على البيئة والمناخ.

من هنا، يقع على المهندسين الداخليين مسؤولية وضع تصاميم مستدامة، بيئية وصحية. ولديهم الفرص لدمج الاستدامة في أعمالهم والمساهمة في مستقبل أفضل للكوكب وسكانه من أجل الحد من انبعاثات الكربون، والتغير المناخي والاحتباس الحراري.

الاستدامة في الهندسة الداخلية

تعد الهندسة الداخلية علمًا وفنًا على حد سواء. يسعى المهندسون عبر منهجياتها لخلق مساحات وظيفية وجمالية تثري التجربة الإنسانية، مع الأخذ في الاعتبار التأثيرات البيئية والصحية لاستخدام المواد والطاقة والموارد بحكمة. ويمكن للمهندسين الداخليين اعتماد استراتيجيات عمل متنوعة لتحقيق الاستدامة في مشاريعهم من خلال مقاربات جديدة قائمة على ترشيد الحداثة ودمجها مع التقنيات التقليدية التي برهنت في الماضي على كفاءة كبيرة من خلال الاستخدام الحكيم والذكي للموارد الطبيعية.

1-1 مميزات التصميم البيئي المستدام

1-1-1 التصميم المرن

يعد التصميم المرن أحد أبرز استراتيجيات تطبيق الاستدامة لأنه يحد من الاستخدام المفرط للمساحات غير المبررة والتي عادة ما تستهلك مساحات خارجية عتمد بشكل رئيس على تجريف الاراضي الزراعية وقطع الاشجار. بالاضافة الى مود بناء ضارة بالبيئة. فترشيد استخدام المساحات الداخلية وتصميم فضاءات يمكن تعديلها أو إعادة تنظيمها بسهولة لتلبية الاحتياجات المتغيرة يطيل عمر البناء ويقلل الحاجة إلى الموارد الجديدة.

1-1-2 إختيار المواد المستدامة

يعد استخدام مواد البناءالصديقة للبيئة ومعادة التدوير من مصادر محلية طبيعية حافزا لتقليل البصمة الكربونية وتعزيز جودة البيئة الداخلية للمسكن. وتتمثل هذه المواد في المنتجات ذات المحتوى المنخفض من المركبات العضوية المتطايرة، والمواد غير السامة، أو تلك القابلة للتحلل والتجدد التي تخفف من الأثر الضار على البيئة.

1-1-3 الأثاث والديكور المستدام

يمكن لاختيار الأثاث والديكورات التي تعتمد في صناعتها على المهارات الحرفية واليدوية من مواد طبيعية خالية من المركبات البتروكيمائية أن تشكل عاملًا رئيسا في تخفيف الأثر البيئي السلبي.فيمكن مثلا استخدام الطلاء ذو التركيبة المائية او المصنوع من زيت بزر الكتان عوضا عن الطلاء الزيتي البترولي. كما يمكن تصميم أثاث لا يحتاج في عملية تشطيبه الى الطلاء اللامع. على سبيل المثال، الخيزران والفلين والقنب والصوف والقطن واللينوليوم هي بعض المواد التي يمكن استخدامها للأرضيات والأثاث والنسيج والإكسسوارات[1].

1-1—4 إعادة التدوير وإعادة الاستخدام

على المهندسية الداخليين التفكير الجدي في تصميم وتسويق الأثاث والمفروشات معادة التدور أو تلك القديمة التي يعاد استخدامها بعد صيانتها وتتجديدها. وتجنب قدر المستطاع تلفها أو صناعة أثاث جديد. ومن شأن هذه الاستراتيجية الحد من قطع الاشجار. كما يمكن اعادة تدوير الأثاث التالف والمتهالك في عملية تصميم الأثاث الجديد.

1-1-5 الاعتبارات الصحية و تحسين جودة الهواء الداخلي

إن تصميم فضاءات داخلية تأخذ بالاعتبار البعد الصحي للمستتخدم يمكن أن يوفر بيئة داخلية تدعم الصحة والرفاهية، من خلال تحسين جودة الهواء الداخلي عبر استخدام مواد غير سامة وخالية من المركبات البتروكيميائية. فقد أثبتت التجارب أن استخدام المهندسين لمواد طبيعية يضاعف امكانية شفاء المرضى، ويحد من التأثيرات السلبية لبعض الامراض.

إن الحد من استخدام المواد السامة. وتكثيف دمج النباتات في الفضاء الداخلي أو الأنماط الطبيعية والأشكال العضوية، لإنشاء مساحات تربط السكان بالطبيعة وتعزز الرفاهية[2] من شأنه تنقية الهواء وإضفاء لمسة طبيعية. ما يحسن من جودة المكان ويثري تجربة المستخدم ضمن بيئة داخلية صحية وأكثر جاذبية. وهي تشمل تطبيق التصميم المستدام [3]، مثل البيوفيليا biophilia[4]، والتقليد الحيوي biomimicry[5]، ومن المهد إلى المهد  [6]cradle-to-cradleأو الاقتصاد الدائري[7]circular economyالذي يلهم حلولًا مبتكرة وشاملة تحاكي الطبيعة وتعزز الوظيفية وتمدد عمر المنتجات.

1-2 دور الاستدامة في كفاءة استخدام الطاقة

1-2-1 ترشيد استهلاك الطاقة

يمكن للمهندس الداخلي تصميم المساحات بطريقة تحقق الاستفادة القصوى من الضوء الطبيعي، والتهوئة. مما يقلل الحاجة إلى الانارة الاصطناعية والتدفئة والتبريد الميكانيكيين. وبالتالي ترشيد استهلاك الطاقة.

فالإضاءة والأجهزة الكهربائية ذات الكفاءة العالية من حيث استهلاك الطاقة، مثل[8]LED أو[9]CFL والعزل الذكي وأنظمة التكييف لخفض استخدام الطاقة مثل Inverterو VRV، والأجهزة التي تعمل بالطاقة الشمسية وتركيب زجاج Low-Eكلها حلول تحد من استهلاك الطاقة المعتمدة على الوقود الاحفوري، وتقلل من انبعاثات غاز الكربون وتلعب دورا كبيرا في العزل والحد من احترار المساحات الداخلية.

1-2-3 إدارة الموارد والحفاظ على المياه

يعد استخدام صنابير المياه عالية الكفاءة ذات التدفق المنخفض والتي تعمل على مستشعرات الحركة كنظام عمل متكامل لتخفيف عملية استهلاك المياه من الأنظمة الصحية الفعالة في الهندسة الداخلية. وتصميم المناظر الطبيعية التي تستخدم النباتات المحلية التي تتطلب كميات أقل من الماء.

وتشمل هذه الاستراتيجية توفير أنظمة تجميع مياه الأمطار المبتكرة لتقليل استهلاك المياه الجوفية. ما يساهم في الحفاظ على الموارد المائية وتخفيف الضغط على النظم البيئية المحلية².

1-2-4 إدارة النفايات

تبدأ هذه العملية من بداية تحضير الموقع لإنشاء المسكن أو المنشأة، من خلال تطبيق استراتيجيات تقلل من إنتاج النفايات وهدر المواد التالفة أثناء البناء وعلى مدار دورة حياة المسكن.وتشجيع إعادة تدوير النفايات المنزلية أو تسميدها وتوفير حاويات أو أنظمة خاصة لهذا الهدف يمكن أن تحول النفايات من المدافن الصحية وتقلل من تلوث البيئة[10].

1-3 فرص المساكن المستدامة ومميزاتها الاستثمارية

إن توفير مساحات آمنة ونظيفة ومواتية للاسترخاء والإنتاجية والإبداع يحسن من صحة وسعادة ورفاه المستخدمين. فقد أظهرت العديد من الدراسات أن التصميم الداخلي المستدام يمكن أن يقلل من التوتر ويعزز المناعة ضد الأمراض[11].كما يمكن أن يساهم في زيادة قيمة وجاذبية العقار من خلال فعاليته ومتانته وجذب المستثمرين أو الذين يتطلعون للايجار والشراء. وقد أشارت الأبحاث إلى أن المباني المستدامة يمكن أن تحظى بمعدلات اشغال أعلى ومعدلات شغور أقل ودخل استثماري أعلى من المباني الاخرى.

فوفقًا لمجلس المباني الخضراء الأمريكي إن توفير التكاليف والموارد من خلال تقليل استهلاك الطاقة والماء والمواد، وتخفيف النفايات والانبعاثات في المباني الخضراء يمكنه توفير ما يصل إلى 30٪ من استخدام الطاقة، و35٪ من انبعاثات الكربون، و40٪ من استخدام الماء، و 70٪ من النفايات الصلبة.

هذه الميزات الفريدة من شأنها تعزيز سمعة وتنافسية الشركات التي تتبنى منهج الاستدامة. من خلال إظهار المسؤولية الاجتماعية والبيئية، وتلبية توقعات ومطالب أصحاب المصلحة، مثل العملاء والموظفين والمستثمرين والجهات التنظيمية. وقد كشفت الاستطلاعات أن المستخدمين على استعداد لدفع المزيد مقابل المنتجات والخدمات المستدامة، وأن الموظفين أكثر رضا وولاء لأصحاب العمل الذين يتبنون هذه الاستراتيجيات.

1-4 حالات دراسية

إن عناصر الهندسة الداخلية الخضراء ومبدأ الاستدامة يتكاملان لخلق بيئات معيشية صحية ومراعية للبيئة. وهناك العديد من المشاريع المستدامة الواعدة في الشرق الأوسط، التي تُظهر التزام دول المنطقة بالاستدامة واستخدام الطاقة المتجددة والطاقة البديلة، ومن بين هذه المشاريع:

1-4 -1 متحف اللوفر أبو ظبي

يتجلى مفهوم الاستدامة بوضوحفي متحف اللوفر أبو ظبي الذي صممه المعمار العالمي جان نوفال. وهو يعد مثالاً بارزاً على الجمع بين الجمالية والوظيفية والكفاءة البيئية. ابتداءً من اختيار الموقع، استخدام تقنيات ومواد بناء طبيعية، كفاءة استخدام الطاقة الكهربائية والمائية وادارة النفايات وتحسين جودة البيئة الداخلية[12]

تعتبر قبة المتحف الهندسية التي تبدو وكأنها تطفو فوق المبنى جزء لا يتجزأ من الهدف الجمالي والبيئي. فهي تعمل كغطاء للتظليل الساحة الخارجية ومباني المتحف، مما يساهم في تخفيف استهلاك الطاقة لكل المباني المغطاة. كما ساهمت تقنيات Passive Solar System & Active Solar Systemالمستوحاة من ثقافة العمارة التقليدية في تعزيز كفاءة المبنى. وساهمت القبة بفتحاتها التي تسمح بدخول ضوء النهار في تخفيف الحرارة بنسبة 72% بالإضافة إلى استخدام الكتلة الحرارية المكشوفة مثل أرضيات الحجر والإكساء الذي يقاوم درجات الحرارة الأكثر برودة في الليل.[13]

حقق لوفر أبو ظبي شهادة تصنيف تصميم اللؤلؤ الثلاثي من مجلس التخطيط الحضري كجزء من نظام تصنيف المباني Estidama، وكان أول تطوير معماري بهذا النطاق في المنطقة يحصل على هذه الشهادة، ما يعكس التزام أبو ظبي ومؤسسة التطوير والاستثمار السياحي بدمج الاستدامة في جميع منشآتها.

1-2-4 متحف قطر الوطني

يُعدمتحف قطر الوطني (NMoQ) من تصميم المعمار جان نوفال مثالاً بارزاً على تحقيق الاستدامة في العمارة والهندسة الداخلية. حيث يبرهن على التزام البيئي منذ البداية. إن تصميم المتحف المستوحى من زهرة الصحراء لا يعتمد على البعد الجمالي فحسب، بل يتضمن أيضاً العديد من العناصر المستدامة التي تقلل بشكل كبير من البصمة البيئية.[14]فأحد أهم ميزاته المستدامة تتجسد في هندسته المعمارية الموفرة للطاقة، التي تعتمد بشكل كبير على كفاءة الهيكل الخارجي لعزل المساحات الداخلية. مما يقلل الحاجة المكثفة إلى أنظمة التبريد خلال أشهر الصيف الحارة. والواجهة الخارجية للمتحف التي تشبه بتلات زهرة الصحراء تعمل على توفير الظل وتقليص التعرض المباشر لأشعة الشمس ما يخفف استهلاك الطاقة.

يجسد التصميم الداخلي للمتحف الذي وضعه المهندس كويتشي تاكادا(Koichi Takada)[15] مبادئ الاستدامة من خلال السردية المستواحاة من التاريخ القطري البيئة الطبيعية التي طبقها عبر برنامج نمذجة ثلاثي الأبعاد لإنشاء سلسلة من القطع الخشبية الفريدة ذات الأشكال العضوية التي يتم قطعها بتقنيةCNC وتجميعها يدويًا في الموقع من قبل الحرفيين. هذه التقنية سلطت الضوء على الحرفية والتراث الثقافي لقطر. ومن الجدير بالذكر أنNMoQ يتميز كونه المتحف الوحيد عالميًا الذي حقق تصنيفات عالية للاستدامة من عدة هيئات معترف بها دوليًا، بما في ذلك تصنيفGSAS 4 نجوم للتصميم وشهادة البناء وهي أعلى فئة في نظام جوائز  GSASوشهادةLEED الذهبية.

كما برزت العديد من المشاريع المستدامة مثل:

• محطة براكة للطاقة النووية في أبو ظبي في الإمارات العربية المتحدة، هي أول محطة طاقة نووية تجارية في العالم العربي، تهدف إلى توفير 25% من الكهرباء في الإمارات وتقليل 22 مليون طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون سنوياً.[16]
• حديقة محمد بن راشد آل مكتوم للطاقة الشمسية في دبي، الإمارات العربية المتحدة. وهي أكبر حديقة شمسية من نوعها في العالم، بقدرة إنتاجية تصل إلى 5,000 ميجاواط وتهدف إلى تقليل أكثر من 6.5 مليون طن من انبعاثاتثاني اكسيد الكربونسنويًا.[17]
• مشروع نيوم للهيدروجين الأخضر في السعودية، يعد جزءًا من مشروع نيوم الضخم ويهدف إلى إنتاج 600 طن يوميًا من الهيدروجين الأخضر بحلول عام 2026، مما يساعد في تقليل خمسة ملايين طن متري من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون سنويًا.[18]
• مشروع بنبان للطاقة الشمسيةفي أسوان، مصر، وهو أحد أكبر المشاريع الشمسية في العالم، يضم 41 محطة للطاقة الشمسية ويهدف إلى تعزيز جهود مصر في تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
• مشروع الشعيبةPV1 والشعيبةPV2 في مكة في المملكة العربية السعودية، يعد من أبرز مشاريع الطاقة المتجددة مع قدرة إنتاجية تبلغ 2631 ميجاواط، مما يوفر الطاقة لنحو 450,000 منزل.

الخاتمة

تعد الاستدامة منهجًا حيويًا لا بد منه، على المهندسين الداخليين تبنيه في مشاريعهم لخلق فضاءات داخلية ومساحات وظيفية وجمالية، صحية وبيئية في آن. تحسن جودة الحياة وتحمي البيئة لتشكل قيمة مضافة. فالاستدامة في الهندسة الداخلي والعمارة ليست مجرد اتجاه آني، بل ضرورة وفرصة لعالم أفضل.