الدكتور جعفر فضل الله
سكن الشعب الفينيقي على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، ويمتد الساحل بين خليج الاسكندرونة في الشمال وصحراء سيناء في الجنوب ويتكون من أرض ضيقة نسبياً، يحده من الشرق جبال اللاذقية وسلسلة جبال لبنان الغربية ومن الغرب بحر الأبيض المتوسط[1].
يبلغ طول شاطئ فينيقيا حوالي 440 كلم، تنعدم فيه الخلجان الطبيعية إجمالاً باستثناء خليج الاسكندرونة في الشمال وشكلت الجبال الشاهقة حاجزاً طبيعياً طولانياً وقفت عائقاً أمام الغزاة على مر العصور، كما أن الأراضي الصالحة للزراعة ضيقة نسبيّاً نظراً لإقتراب الجبال من البحر، حتى أنها تكاد أن تلامس مياه البحر في أماكن عدة كرأس نهر الكلب فيما تنفرج تلك الأراضي في الشمال مثل سهل عكار والجنوب مثل سهلي صيدا وصور وفي بعض البقع في الوسط[2].
توفرت في أرض فينيقيا المقومات الطبيعية التي سمحت في قيام حضارة ناجحة، نجم عنها استيطان مستمر على أرضها، أثبتت ذلك الحفريات الأثرية التي كشفت عن معظم مدنها، بالإضافة إلى ما ذكرته الوثائق التاريخية كرسائل تل العمارنة ونصوص أوغاريت، رغم أن شواهد المدن الفينيقية الساحلية التي ذكرتها نصوص أوغاريت كانت ضئيلة جداً بما أنها كانت خارج نطاق الأراضي الفينيقية ولأنها ركزت نظرها وإهتماماتها على المناطق الشمالية بدلاً من تلك الجنوبية منها.
إن المدن التي ذكرت في مراسلات تل العمارنة ونصوص أوغاريت على حد سواء هم على التوالي من الشمال إلى الجنوب (أرواد – جبيل – بيروت – صيدا – صور)، ولو ندقق في هذه المدن لوجدنا أنها تحوي على أهم الموانئ التي تفسر طبيعة المستوطن الممارس للأعمال التجارية والملاحية ومدى ارتكازه عليها كعنصر أساسي يقوم عليه إقتصاده. وذكر أيضاً في أرشيفي تل العمارنة وأوغاريت موقع Ardatu، حيث جعلته رسائل تل العمارنة يقع شمالي مدينة جبيل الحالية، ومن الأرجح أن هذا الموقع غير ظاهر في الألف الأول قبل الميلاد[3]. وكذلك هناك مدن عديدة ذكرة في الوثائق التاريخية غير معروف موقعها حاليّاً.
1 - الانتشار والتوسع الفينيقي
لقد اشتهر الفينيقيون منذ عهود باكرة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط بكونهم تجار بارعين، ولا أحد يشك ببراعة ومهارة الفينيقيين في اتقان مهنة الملاحة البحرية التي تمكنوا إبانها من أن ينفذوا إلى مختلف بقع العالم. والمنطق يستدعي القول أن هذه المهارة والحرفيّة في ممارسة الملاحة البحرية لم تخلق وتتطوّر عند الفينيقي في هذه السرعة بعد هجرته إلى السّاحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، بل كانوا مارسوها في أرض منشئهم المشرفة على البحر، كما يمارس البدو الترحال في الصحاري.
https://medium.com/faquora Credit to
إن مهارة الفينيقيين وحرفتهم في تصنيع السفن وإلمامهم الواسع بالمعارف المتعلقة في علوم البحار وظاهرة الغلاف الجوي سمحت لهم في التغلب على كل الظروف التي تقف عائقاً أمام خوض الإنتشار البحري في حوض البحر الأبيض المتوسط، فارتبط الشعب الفينيقي بصفات عدة ومنها التاجر والجريء والحيل والبارع وغيرها [4].
وكان للشعب الفينيقي دائماً الإرادة والرغبة في إيجاد مصادر للموارد الطبيعية والمواد الأولية في أي مكان بغية إعادة بيعها خام أو مصنعة،وفي تجارة المنتجات الصناعية داخل وطنهم بعد جلبها، فالربح واكتساب الأرباح الطائلة كانت هدف الفينيقي الأساسية من التوسع والإنتشار لذلك كانوا يرسون سفنهم على شواطئ وأماكن مقطونة من قبل شعوب علهم ينجحوا في إقناعهم لبيع وشراء منتجاتهم دون تدخلهم في شؤونهم السياسية[5].
ربط معظم العلماء هذا المجهود الهائل الذي قام به الفينيقيون في التوسع والانتشار في حوض المتوسط والعالم إلى تضاريس الأرض الفينيقية حيث أن الجبال الممتدة من الأمانوس شمالاً حتى جبل الكرمل جنوباً وقفت عائقاً أمام الفينيقيين في ممارسة الزراعة إذ حرمتهم من الأراضي الزراعية الواسعة ومن أحواض الأنهار الكبرى، لكن لو نرجع بالزمن إلى الوراء لوجدنا أن السهول الزراعية لا سيما في عكار وصيدا وصور وغيرهم كانت كافية لإقامة مشاريع زراعية تعزز الإقتصاد الفينيقي إذ أن عدد السكان لم يكن في ذاك العصر كبيراُ مقارنةً في العدد السكاني الحالي، فنعود الآن إلى ما استطردناه سابقاً عن تقاليد الحرفة في الملاحة البحرية لدى الفينيقيين، لكن هذا لا ينفي الدور الأساسي والمساعد الذي لعبته طبيعة الأرض والبيئة في توجه سكان الساحل الفينيقي نحو ركوب البحر والتجارة [6]
إضافةً إلى طبيعة الفينيقي الهاوي للبحر، ثمة عوامل سياسية وإقتصادية وإجتماعية أجبرت الفينيقي أن يطور تقانياته في ركوب البحر ووسائل النقل البحري على أنواعها التي اشتهر بها الفينيقيون منذ استقرارهم على الساحل. ومن خلال المصادر المكتوبة والأثارالمتبقية نستطيع أن نستدل على الطرق المستخدمة في الملاحة ومن أبرزهما: الملاحة القصيرة التي كانت تجري بين مرافئهم لربط مدنهم ببعضها البعض وعلى مسافة لا تتجاوز 25-30 ميلاً بحرياً، لذلك نلاحظ أن المستوطنات الفينيقية كانت قريبة من بعضها بحيث لا تزيد المسافة الفاصلة بين كل مدينة وأخرى عن ملاحة يوم كامل. أما الملاحة الطويلة هي تلك التي تقوم على مسافة أكبر بكثير من الملاحة القصيرة، كان الفينيقيون إثرها يجذفون خلال النهار مستفيدين من ضوء الشمس كي يتحكموا في كل ما يتعرضونه من عوائق [7]
كان للرحلات الإستكشافية التي قام بها الفينيقيون والقرطاجيون في بادئ الأمر هدف واحد وهو إقامة علاقات تجارية بين أكبر عدد ممكن من المستوطنات أينما كانت تقع، وللبحث عن الموارد بشتى أنواعها وخاصةً المعادن كالذهب والفضة والنحاس والقصدير وغيرها، فأبحروا في كل الحوض الشرقي للبحر الابيض المتوسط وأقاموا تجارة ناجحة ومربحة، ثم اتجهوا بمحاذاة الشاطئ نحو جنوبي غرب القارة الإفريقية بعد قطع مضيق جبل طارق الذي كان لفترة من الوقت مركز استراتيجي مهم، سيطرت عليه الجيوش الفينيقية لفرض نفوذها على المنطقة آنذاك، ولتقف حاجزاً أمام السفن الأجنبية المنافسة لها والتحكم في حركة مرورها، فمنعتها من الإبحار والتجارة ليتفرد الفينيقيون وحدهم في التوسع وإقامة التجارة والبحث عن الموارد[8].
كانت السفن الفينيقية في البداية ذات سرعة خفيفة لا تتجاوز بضعة أميال ومعدة للأحمال الخفيفة، إذ كان إلمامهم بعلوم بناء القوارب والسفن في بداية التطور، فكانوا ينقلون البضائع بين المدن الفينيقية نفسها بحرياً وهكذا لصعوبة المواصلات البرية لذا نلاحظ أن مدنهم كانت قريبة من بعضها البعض إذ لا تزيد مدة الملاحة فيما بينهم عن يوم واحد، وكان الفينيقيون يعتمدون في أسفارهم البحرية على النجم القطبي الذي أطلق عليه الإغريق إسم(phoinx) [9].
وفي جميع الحالات كان الفينيقيون يخشون المغامرة في وسط البحار ويحاذون الشواطئ في أسفارهم خوفاً من أن تغيب اليابسة عن أنظارهم كي يتمكنوا من إقامة escalesللسفينة في حالات الرعد والعواصف لاستراحة البحارة بعد جهد نهار كامل من التجذيف وكي يتزودونبالمؤناللاّزمة لمواصلة الرحلة بالإضافة إلى ذلك لأنهم كانوا يعتبرون كوكب الأرض مسطح الشكل وأنهم إذا أبحروا في وسط البحار سيصلوا حتماً إلى نهاية في الطريق فيسقطون بالتالي بالمجهول.
بينما تبحر السفن الحربية على مدار السنة لرصد ومراقبة السواحل كي تبقى تحت أنظارهم ولمنع الدول المجاورة من بسط نفوذها ولتكون أساطيلهم دائماً على إستعداد في حال حدوث حرب أو اصطدام مع القراصنة[10]
ارتبط مع هذا النشاط التجاري والملاحة البحرية، تطوّر وإنتشار الأبجدية الفينيقية في كافة أنحاء حوض البحر المتوسط وما بعده، فمنذ القرن العاشر قبل الميلاد، اعتمدت الشعوب المجاورة الأبجدية الفينيقية في كتاباتهم، منهم الآراميين والعبرانيين وسكان شرق الأردن... ودلّ على ذلك أيضاً العثور على نقوش فينيقية تعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد خاصة في قبرص. وبعدها من القرن الثامن في الأناضول وسردينيا، وبلاد ما بين النهرين، في اليونان، إيطاليا، مصر، إسبانيا حتى ما بعد اعمدة هرقل.
أما الفضل الكبير في نشر وتعليم الأبجدية الفينيقية، يعود إلى قدموس أثناء رحلته إلى اليونان بغية البحث عن شقيقته أوروبا التي اختطفها زوس، وهذه الأسطورة تتناسب مع الواقع التاريخي الذي ذكره المؤرخ اليوناني هيرودوت، حيث ذكر أن الفينيقيين وصلوا إلى اليونان مع قدموس وقاموا بترويج الأبجدية عند الإغريق، التي لم يكونوا على علم بها[11]
2 - المستوطنات الفينيقية في شمال الحوض الغربي للمتوسط
Credit to https://www.britannica.com/place/Byblos
3 - المستوطنات الفينيقية في المغرب القديم
[1]حلاوي، يوسف،الأسطورة في الشعر العربي المعاصر، ط1، بيروت، دار الآداب، 1994، ص.15
[2]أحمد، حامدة، مدخل إلى اللغة الكنعانية الفينيقية،دمشق، منشورات جامعة دمشق، 1994-1995، ص.7
[3]المرجع ذاته، ص. 11-1
[4]محمد الصغير غانم، التوسع الفينيقيفي غربي البحر المتوسط، ط2، لبنان،المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر،1982، ص.47
[5]Piero Bartoloni, les navires et la navigation, les phéniciens sous la direction de Sabatino Moskati, le chemin vert, 1988, p.72
[6]G.Contenau, la civilization phénicienne, Payot, Paris,1949, p. 223.
[7]Piero Bartoloni,Op.Cit, p.72
[8]محمد الصغير، مرجع مذكور، ص. 56-57.
[9]G.Contenau, Op.Cit, P.234
[10]Piero Bartoloni, Op.Cit,P.72
[12]محمد الصغير غانم، مرجع مذكور، ص. 100-106
All rights reserved for Research Labs © 2021